ويقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [ولا يُقَالَ: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً].
وهذا قول بعض المعتزلة: يولد عَلَى الفطرة: أي يولد ساذجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً، خالي الذهن، ثُمَّ أبواه يهودانه أو ينصرانه.
ويقال لهم: لم يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام في الحديث: (أو يسلمانه) فإذا كَانَ يولد لا يعرف توحيداً ولا شركاً، فمن أين يأتي إليه التوحيد والإسلام؟
فهم أولوه بهذا التأويل ليبنوا أو يؤسسوا قواعدهم التي وضعوها، وتركوا الوحي الذي أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في المولود، وهذه قاعدة فاسدة من قواعد المتكلمين من المعتزلة وغيرهم فهم يقولون: إن التقليد ليس إيماناً، فإن اليهود يولد أبناؤهم يهوداً، والنَّصَارَى يولد أبناؤهم عَلَى دينهم أيضاً، والمجوس كذلك، أي أن كل واحد يولد يتبع ويقلد آباءه وبيئته ومجتمعه.
قالوا: ويجب عَلَى كل إنسان أن ينظر ويتأمل ويفكر، حتى يعرف الله ويعرف توحيد الله، ويتأكد هل القُرْآن حق أم لا؟!، ويتأكد هل مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُول أم لا؟!
فلو مات وهو في أثناء مرحلة التفكير والنظر، قيل: يكون مسلماً، وقيل: لا يكون مسلماً.
وهكذا دار الخلاف بينهم لأنهم بنوا عَلَى هذا الأصل الباطل الفاسد.
قال المعتزلة: هذا الحديث معناه: أنه يولد ساذجاً خالياً كالورقة البيضاء ليس فيها شيء، لكن قد يكتب فيها الإيمان والإسلام، وقد يكتب فيها والنصرانية ، وقد يكتب فيها واليهودية.
وقد كذبهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنص الحديث الذي قال فيه: {كل مولود يولد عَلَى الملة} أو {على هذه الملة} أي: يولد متديناً بهذا الدين، فهذا صريح بأن المولود لا يولد ساذجاً لا يعرف شركاً ولا توحيداً، بل يولد عَلَى التوحيد الذي أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ميثاقه علينا في الفطرة، كما قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) [الأعراف:172] ولذلك لما يدخل أهل النَّارِ النارَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث الصحيح لبعض أهل النار: {ابن آدم! لو أن لك ملك الأرض جميعاً أتفتدي به من عذاب النار؟ فَيَقُولُ: نعم يا رب والله لو كَانَ لي ملك الأرض لافتديت به من هذا العذاب الذي أنا فيه، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قد طلب منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد وأنت في صلب أبيك ألا تشرك بي شيئاً} الشاهد هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الحديث الصحيح: (صلب أبيك) فهذا يدل عَلَى أن الميثاق الذي أخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى بني آدم ميثاق حقيقي، وعهد حقيقي، أخذه الله تَعَالَى عليهم في الأصلاب، ثُمَّ بعد ذلك يقرون به وتبقى في فطرهم، والميثاق الفطري هذا سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في موضوعه، لكن الشاهد منه أن هذا هو الميثاق الذي أخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في عالم الذر، وولد به الإِنسَان في عالم الوجود -في العالم الحقيقي الذي نعيشه الآن- فكل مولود يولد عَلَى الفطرة، ومن أراد التوسع في موضوع الفطرة والرد عَلَى أقوال المعتزلة فليراجع كتاب شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ درء تعارض العقل والنقل، فإن الجزء الثاني منه والتاسع امتداد وشرح لهذا الحديث، وبيان لأدلة المعتزلة والمتكلمين والفلاسفة، وإبطال لها ونقل لكلام العلماء في معنى ذلك، ومنهم الإمام مالك وأبو عمر بن عبد البر.
فالشاهد أن هذا هو المعنى الحقيقي للحديث فلا يقال إن معناه أنه يولد ساذجاً.

ومن الأدلة عَلَى ما ذكرناه حديث عياض بن حمار رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وهو: قوله: {خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمتْ عليهم ما أُحِلَ لهم} فإن هذا دليل عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد خلق البشرية في الأصل عَلَى التوحيد، وفطرهم عَلَى الإيمان ثُمَّ أشركوا، وكذلك كل أحد من آحاد بني آدم فإنه يولد عَلَى التوحيد، حتى تجتاحه وتجتاله شياطين الإنس أو الجن فيصرفونه ويحولونه من التوحيد إِلَى الشرك، ويصرفونه عن الفطرة التي هي دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [الروم:30] فدين الإسلام هذا دين الفطرة، وهو الدين القيم وإن اختلفت الشرائع فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلنا عَلَى ملة إبراهيم، وأمرنا أن نتبعها فقَالَ: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً)) [النحل:123] وملة إبراهيم وملة الأَنْبِيَاء جميعاً هي التوحيد الذي هو دين الفطرة لا تغيير له أبدا، ولكن الشرائع والتعبدات تختلف من دين إِلَى دين.